الشدة المستنصرية

 

كتير مننا يعرف مصطلح (أكلي لحوم البشر)، بس دايًما بييجي في ذهننا القبائل البدائية في افريقيا، أو بعض القتلة المتسلسلين، وشخصية دكتور هانيبال ليكتر المشهورة. 

بس اللي ناس كتير متعرفوش ان المصطلح ده مش بعيد عن التاريخ المصري، وان المحروسة كانت شاهدة على واحدة من أبشع الكوارث اللي ممكن تخطر على بال بشر.

في سنة 457 هجرية، وفي عهد (المستنصر بالله الفاطمي)، أصابت الاقدار غير المحمودة مصر، فانخفض منسوب النيل بشكل كبير جدًا، واللي أدى لجفاف الأراضي، وندرة المحاصيل، وشوية شوية بدأت المحاصيل تختفي من السوق، وبدأت معظم الحيوانات تموت، وبدأ يكون في ندرة كبيرة جدًا في الطعام، واللي زاد الطين البلة جشع التجار اللي بدأوا يخزنوا معظم المنتجات ويجوعوا السوق.

وخلينا كمان نرجع للأحداث السياسية اللي ساعدت في الأزمة وهو ان والدة المستنصر بالله كانت بتدخل في الحكم بشكل كبير جدًا، وكانت بتدي منصب وزير الدولة للشخص اللي هي عايزاه، وكان المنصب بيتغير كل أسبوع واحيانًا كل يوم، وده أدى لعدم الاستقرار في الدولة، وبدأت الجيوش تقاتل بعضها، فالجيش الفاطمي تعاون مع جيوش البربر وطردوا الجيش السوداني لجنوب مصر، واللي اول ما وصل الصعيد بدأ في التخريب والتدمير، وأفسد كل أنظمة الري اللي كانت متواجدة عشان يزيد من حدة الكارثة، ده طبعا الى جانب انخفاض منسوب النيل.

وكل العوامل دي أدت لتفشي الكارثة، وبدأ الاكل يختفي من الأسواق، حتى ان البيضة الواحدة وصل سعرها لعشر فدادين، وبعدها اختفى الاكل نهائيًا من الأسواق، والأموال فقدت قيمتها، وابتدت المجاعة، والكارثة الأسوأ في تاريخ مصر.

في البداية، بدأ الناس يصطادوا الكلاب والقطط من الشوارع، وبدأ التجار يبيعوهم باغلى الأسعار لحد ما اختفوا من الشوارع تمامًا، وبدأ الناس تاكل الحيوانات الميتة اللي تلاقيها مرمية في الشوارع، وفضلت الازمة والمجاعة تشتد لحد ما حلت الفاجعة، وبدأت الناس تاكل بعضها...

في مرة، نزل وزير الدولة عشان يحقق في واقعة، ولما خلص طلع لقى الناس سرقت البغلة بتاعته، واكلتها، ولما قبض الوزير على تلاتة من اللي سرقوا البغلة، أمر بإعدامهم في الشارع قدام الناس وسابوا الجثث متعلقة، وتاني يوم ملقوش من الجثث دي غير العضم وبس...

الناس كمان مكتفوش بأكل الميتة، وبقت الناس بتصطاد بعضها في الشوارع، لدرجة ان كان في زقاق بيسمى بزقاق القتل، البيوت فيه كانت منخفضة، فكان الأهالي بيقفوا على السطوح وينزلوا الخطاطيف ويصطادوا الناس اللي ماشية في الشوارع، ويقتلوهم، وياكلوهم.

والناس بدأت تقتل أقرب الناس ليها، والأهل بدأوا يقتلوا أولادهم، وكانت الناس بتستدعي الأطباء بحجة ان في مريض في البيت، وبينقضوا عليهم ويقتلوهم، ويتشاركوا في اكلهم، وبدأت الناس تنبش قبور الميتين حديثًا ويستخرجوا الجثث، وياكلوها.

والفترة دي قضت على تلت السكان، وتراجع عددهم لأقل عدد في تاريخ مصر.
ووصلت الكارثة لأقصى درجات البشاعة اللي مش ممكن حد يتخيلها في اسوأ كوابيسه.

فمن بعض القصص في رواها البغدادي في كتابه (الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر):

ان كان في راجل متهم بخطف ابن جاره وشويه، واكله، ولما اتقبض عليه، اعترف انه كان متفق مع أبو الولد ده، والاتنين اتشاركوا في اكله..

وحكى ان في المدة دي كانوا بيلاقوا جثث وبقايا أطفال مشوية او مطبوخة بشكل كبير جدًا في الأسواق، حتى انهم لقوا طفل مشوي في قفة في السوق مع راجل وست، ولما اتقبض عليهم اعترفوا بانهم ابوه وامه..

وحكى ان في مرة راجل عزم صاحبه في البيت على وليمة كبيرة من اللحم، فالراجل شك في الموضوع ولما سأل ابن صاحبه عن مصدر اللحم، قاله بمنتهى براءة الطفولة، ان دي كانت جارتهم—التخينة—ولما جات تزور امه، ابوه قتلها ودبحها وطبخوها..

وحكى انه كان مرة بيمر في الشارع ولقى ست بتاكل في جثة منتفخة ومنفجرة، فلما استنكر فعلتها، ردت عليه بمنتهى البساطة بانها جثة جوزها..

وفي مرة تانية لقى ست ومعاها ساق مشوية، وبتاكل فيها وسط الناس عادي جدًا، ومحدش بيقلها بتعملي ايه..

أنا أعلم عزيزي القارئ أنك الأن تشعر بشتى أشكال الاشمئزاز ولا تقدر على تخيل بشاعة هذه الأفعال...

فكفاية لحد كدة، وخلينا ننتقل للجزء اللي بعده، وهو ازاي تم حل الازمة؟

الازمة والمجاعة طالت المستنصر بالله ذات نفسه، وباع كل اللي وراه واللي قدامة، حتى انه اضطر انه يبيع رخام قبور اجداده، عشان يقدر يجيب فتات الطعام.
ولما ملقاش حل غير انه يطلب يد العون، بعت لـ (ابن عبد الله الجمالي) اللي كان معروف بالعدل، وعينه وزير ليه، فاهتم الجمالي بإصلاح نظام الري، والزراعة، وحارب الجنود المنشقة وطردهم، واهتم انه يوفر الاكل والمعونة للفقراء والفلاحين.
وبعد سبع سنين عجاف، فاض نهر النيل ورجع لمنسوبه الطبيعي، وخلد المصريين اسم الجمالي باطلاقه على (حي الجمالية).

واتقفلت صفحة سودة، هتفضل دايما محفورة في التاريخ المصري بانها الكارثة الابشع لحد الأن..

طبعا الكل دلوقتي مستنكر الأفعال دي، ومستغرب ازاي الناس دي قدرت انها تعمل كدة. ازاي اتجردوا من كل معالم الإنسانية ووصلوا بانهم يقتلوا، وياكلوا لحم بشر زيهم!

حوادث كتير على مر التاريخ، اضطر فيها ناس عاديين انهم يتحولوا لاكله لحوم بشر من اجل النجاة، زي حوادث الطيارات المفقودة اللي كان الناجين بيضطروا انهم ياكلوا من لحم الجثث عشان يفضلوا عايشين، وفي الحروب والمجاعات المختلفة تم رصد كتير من الحالات دي.

ويفضل السؤال هنا، هل الانسان فعلًا ممكن يعمل أي حاجة عشان النجاة؟!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ريتشارد راميريز: المتعقب الليلي

أسطورة النداهة

رعب فندق سيسيل - الجزء الثاني