ريتشارد راميريز: المتعقب الليلي

 

هل سبق وأن نظرت الى عيون أحدهم، وخُيل لك أنك تحدق في أقصى أعماق الجحيم؟

قد يكون سؤالي غريبًا بعض الشيء، لكنه بالتأكيد يصف ما أشعر به كلما تعمقت النظر في صورة أو فيديو يظهر فيهما سفير الجحيم...

"القتلة المتسلسلون بيعملوا—على نطاق صغير جدًا—نفس اللي بتعمله الحكومات—على نطاق واسع—من نهب وسرقة وقتل باسم الدين والوطن والأعراف والقوانين اللي هم حاطينها بإيدهم. احنا مجرد ناتج للعصر الحالي والمجتمع المتعطش للدماء اللي بنعيش فيه."

دي جملة قالها (ريتشارد راميريز) أثناء محاكمته واللي بتوضح لحد ما آليه تفكير واحد من أكثر القتلة المتسلسلين وحشية على مر التاريخ.

بس قبل ما نتعمق في تفاصيل جرائمه ومحاكمته، لازم نرجع بالزمن للوراء، وتحديدًا يوم 29 فبراير من سنة 1960 في مدينة إل باسو في ولاية تكساس الأمريكية، وهو اليوم اللي شهد ولادة طفل كان الأخير ما بين ستة أطفال لعائلة كادحة وفقيرة. الأب كان شرطي في المكسيك قبل ما ينتقل هو وعيلته للولايات المتحدة ليكون عاملًا في احدى محطات القطارات، والأم كانت عاملة مصنع متدينة جدًا، وعملت كل ما بوسعها عشان تربي أولادها على نهج سوي يكون سبب في كونهم أشخاص ذو فائدة لمجتمعهم لما يكبروا، لكن للأسف هدفها ده متحققش مع إبنها الأصغر، وأتت الرياح بما لا تشتهي السفن...

في العادة، أغلب القتلة المتسلسلون حصلهم حوادث في طفولتهم كان ليها تأثير كبير على آليه عمل أدمغتهم، سواء كانت الحوادث دي على هيئة إصابة في الرأس كانت سبب في تلف خلايا المخ، أو صدمات نفسية كانت بمثابة الضربة اللي غيرت حياتهم للأبد وحولتهم لأشخاص فقدوا كل معاني الآدمية، وميعرفوش معنى الندم أو معنى انهم يتعاطفوا مع الغير، وفي حالة بطل قصتنا (ريتشارد راميريز) فهو مر بالحالتين...

يُقال إن (ريتشارد) وقعت عليه حمالة ملابس وهو في عمر السنتين أدت لنزيف وكسر بالجمجمة، وكمان وهو عنده ست سنوات صدمته مرجيحة سببتله إغماء في الحال، وبعدها بدأ يعاني من نوبات صرع. كمان يقال إن والد (ريتشارد) كان رجل عصبي، حاد المزاج، وكان بيعنف أولاده دايمًا لأتفه الأسباب بالسب أو الضرب المبرح.

كمان لما (ريتشارد) كان عنده 10 سنين، رجع ابن عمه السادي (ميجيل) من حرب ֿڨيتنام، وكان بيوريه صور دموية للحرب، ولجثث معذبة ومشوهة، ولستات تم الاعتداء عليهم بأبشع الطرق ومن ثم قتلهم. كمان كان بيعلمه أساليب القتال المختلفة اللي اتعلمها في الحرب، وكمان معاه بدأت رحلة (ريتشارد) مع تعاطي المخدرات.

وأسوأ ما في الأمر، إن (ريتشارد) كان شاهد على قتل (ميجيل) لزوجته بوحشية بطلقة للرأس خلت دمائها تتناثر على وجه الطفل (ريتشارد) واللي وقتها شعر بنشوة غريبة كانت سبب لأنه أعاد تكرار المشهد عشرات المرات خلال سنوات ارتكابه لجرائمه...

التأثيرات السلبية في طفولة (ريتشارد) موقفتش لحد هنا، فكان ليه أخت أكبر منه اسمها (روث) وكانت بتهتم بيه وبتعامله كأنه أحد أبنائها وكان بيقضي وقت كبير في بيتها، لكن المشكلة كانت إن زوج (روث) المسمى بـ (روبرتو) كان متلصص ليلي، واللي ما يعرفش يعني ايه المتلصص الليلي، فهو الشخص اللي بيعشق مراقبة حياة الناس الشخصية في السر.

والأدهى في الأمر، أن (روبرتو) كان بياخد (ريتشارد) معاه في جولاته الليلية وبدأ يعلمه كل اللي يعرفه عن أساليب التلصص على بيوت الناس، وبعد فترة، (ريتشارد) مبقاش بيكتفي بالتلصص بس، لأ كمان بقى بيقتحم البيوت لسرقتها؛ للحصول على المال الكافي لشراء المخدرات، وكمان كان بيحاول يعتدي على النساء...

وفي الثالثة عشر، شخصية (ريتشارد) بدأت تاخد منحنى أغرب فكان بيعشق قضاء الوقت في المقابر، ويُقال إن الفترة اللي قضاها وسط القبور، كان ليها التأثير الأكبر في كونه واحد من عبدة الشيطان...

السبب في ده يرجع لكره (ريتشارد) الكبير للمجتمع المنافق والناس، وانه لقى السلام اللي فضل كتير يدور عليه في كنف الأموات بعيدًا عن الأقنعة المزيفة اللي بيلبسها الناس يوميًا. و(ريتشارد) صرح في مرة أنه لو كان بإيده التحكم بالقنابل النووية لكان فجر العالم أجمع، وفي النهاية كان قراره انه ينضم لجماعات عبادة الشيطان اللي كانوا بيشاركوه نفس الأراء.

ده غير إن من صغره كان عنده هوس بالشيطان، ذلك الشرير المتمرد على كل شيء. ولما اتسأل عن سبب عبادته للشيطان، قال انه فضل عبادة اللي هيكافئه على كل أفعاله السيئة والدموية بدل ما يعاقبه عليهم، ولإثبات ولائه، قام بوشم نجمة الشيطان الخماسية على يده...

محدش عارف بالظبط امتى بدأ (ريتشارد) في رحلته الدموية، ولا العدد الحقيقي لضحاياه، بس رسميًا حسب التحقيقات، مشواره الفعلي بدأ في 28 يونيو 1984 في مدينة لوس أنجلوس، وأول ضحاياه كانت (چيني ڨينكو) صاحبة الـ 79 عامًا.

ففي ليلية صيفية حارة، خرج (ريتشارد) كعادته عشان يدور على بيت يسرقه، ولكن بسبب الجو، معظم الشبابيك كانت مغلقة، ففضل يدور لحد ما لقى شباك مفتوح وكان هو بيت (چيني) العجوز المسكينة ذات الحظ السيء. ولما (ريتشارد) دخل البيت ملقاش أي حاجة قيمة يسرقها فاستشاط غضبًا، ودخل كالحيوان المسعور لغرفة (چيني) اللي كانت في نوم عميق، وطعنها أكتر من مرة قبل أن يذبحها، ونفسه السادية مكتفتش بكدة، لأ كمان مارس مع جثتها النيكروفيليا قبل مغادرته للمنزل...

جريمته الثانية كانت في 17 مارس 1985، لما اقتحم بيت الشابة (ماريا هيرنانديز) اللي كانت راجعة بعد يوم عمل شاق ولما دخلت بسيارتها للجراچ، كان بانتظارها وأطلق عليها النار، ولكم من حسن حظها ارتطمت الرصاصة بميدالية مفاتيحها، ولكن ذكاء (ماريا) أوحى لها انها تتظاهر بالموت، فتركها ودخل المنزل اللي كانت فيه صاحبتها (دايلي أوكازاكي) واللي أول ما شافته استخبت في المطبخ، ولزيادة المتعة، دبر ليها (ريتشارد) فخ وأوحى ليها بإنه ترك المنزل، ولما (دايلي) وصل ليها شعور الأمان المزيف وتركت مكان اختبائها، انقض عليها المجرم وأرداها قتيلة برصاصة للرأس، وفي الوقت ده كانت (ماريا) قدرت تهرب للشارع.

وكان القاتل في أشد حالاته غضبًا لما عرف إن في ضحية أفلتت منه، فبعد ساعة واحدة، ارتكب جريمة تانية لما وقف عربية وقتل صاحبتها ورماها براها، وسرق العربية.

وتوالت الجرائم وخلف (ريتشارد) ورائه الكثير من الجثث، حتى اقتحم منزل (روث ويلسون) واللي كانت متواجدة فيه مع طفلها ذو الـ 10 أعوام، وكانت المفاجأة انه قرر تركهم أحياء بعد الاعتداء على (روث)، وأخيرًا وللمرة الأولى أصبح لدى الشرطة وصفًا دقيقًا لأوصاف وملامح القاتل.

استمر مسلسل جرائم، وانتشر الزعر في ولاية كاليفورنيا بأكملها، والناس بقت بتحمل الأسلحة في كل مكان وبيسهروا بالليل لحراسة منازلهم، وأطلقت الصحافة لقب (المتعقب الليلي) على القاتل الغامض، واللي عجب (ريتشارد) جدًا وأشبع غروره.

الشرطة كثفت مجهوداتها للإيقاع بالقاتل، بس الموضوع كان أصعب من العادة بسبب غرابة القاتل وبسبب الاختلاف الكبير بين طرق القتل وكمان أوصاف الضحايا، فكان المألوف عن القتلة المتسلسلين اختيارهم لفئة معينة من الضحايا مما يعرف بالـ Victimology في علم الجريمة، أو ثبوتهم على طريقة قتل معينة، ولكن (راميريز) كان هو شاذة القاعدة، فضحاياه كانت بتختلف أعمارهم من أطفال لشباب لعواجيز، ومكانش بيفرق بين ذكر أو أنثى، وكانت الطرق اللي بيقتل بيها بتختلف من جريمة لأخرى.

كمان الغريب إن في أحيان كتير، (راميريز) كان بيسيب بعض من ضحاياه أحياء بمزاجه بعد ما يخليهم يقسموا بولائهم للشيطان.

تم تعيين اتنين من أمهر المحققين في ولاية كاليفورنيا للإيقاع بالقاتل هم (جيل كاريلو) و(فرانك ساليرنو) واللي كان نجح في القبض على قاتل متسلسل أخر روع ولاية كاليفورنيا بين 1977 و1978 والمسمى بسفاح التل.

في 18 أغسطس، ترك (راميريز) لوس أنجلوس وسافر لسان فرانسيسكو، وهناك اقتحم منزل لزوجين عجوزين، قتل الزوج، واعتدى على الزوجة ثم قتلها، وبعدها رسم نجمة الشيطان الخماسية بدمائهم على الحائط، ووجدت الشرطة أثار لبصمات أصابع في مسرح الجريمة، بس مكانتش واضحة كفاية والتكنولوجيا مكانتش تسمح في الوقت ده انها تدلهم على المجرم.

وبعد أسبوع رجع القاتل للوس أنجلوس، وارتكب جريمة تانية باقتحامه لمنزل (بيل كارنز) واللي أطلق عليه ثلاث رصاصات وبدأ بضرب خطيبته، (كارول سميث)، وهو يصرخ كالمجنون "أنا المتعقب الليلي"، والمفاجأة انه سابها حية وقالها تتصل بالشرطة وتقولهم ان المتعقب الليلي كان هنا.

بس وهو خارج من المنزل، شافه طفل صغير اسمه (چيمس) شعر بغرابه لما شاف راجل شكله مريب ومتشح بالسواد، فسجل رقم العربية اللي كان بسوقها وبلغ الشرطة عنها، واللي اتضح بعد كدة ان العربية كانت مسروقة، فكثفت الشرطة مجهوداتها للعثور عليها، وبالفعل لقوها مهجورة على جانب أحد الطرق، وبعد مسحها بدقة، أخيرًا لقوا بصمات أصابع كاملة يقدروا من خلالها يتعرفوا على هوية المجرم، كمان طابقوها باللي وجدوها في سان فرانسيسكو.

وبالفعل، البصمات قادتهم أخيرًا لهوية المتعقب الليلي واللي اتضح انه هو (ريتشارد راميريز) صاحب السجل الإجرامي الطويل من المخالفات المرورية، وقضايا التحرش وتعاطي المخدرات.

في الحال، صورة (ريتشارد) انتشرت في جميع الصحف والقنوات التلفزيونية، وظهر رئيس الشرطة بنفسه وهو ماسك صورته وقال بنبرة تهديدية: "إحنا خلاص عرفنا انت مين، ودلوقتي كمان الناس كلها هتعرفك، ومفيش أي مكان هتقدر تستخبى فيه مننا."

(راميريز) كان مولع بمتابعة أخبار قضيته، لكن ولسوء حظه، في الوقت اللي تم الكشف فيه عن هويته، كان بيزور أخوه في أريزونا، فلما رجع وأثناء مشيه في أحد الشوارع، لقى إن كل الناس بتبصله باستغراب وبتشاور عليه، فحس إن في حاجة غلط وحاول انه يهرب، لكن الناس بدأت تصرخ بأعلى صوتها وتقول "قاتل" وتشاور عليه، وسرعان ما بدأ أغلب سكان الحي بمطاردته، وتحول (راميريز) لفأر مذعور بيحاول يهرب بأي طريقة من مخالب مطارديه اللي كان متأكد انهم لو مسكوه، هيقطعوه بسنانهم.

وفجأة، لقى نفسه في زقاق ضيق والناس محاصراه من كل اتجاه، وأخيرًا، وقع الفأر في المصيدة، والناس اتلموا عليه وبدأوا يضربوه واحد ورا التاني، لحد ما (ريتشارد) نفسه أترجاهم انهم يطلبوا الشرطة، وفعلًا لما الشرطة جات خلصته من أيدهم بأعجوبة بعد ما خلاص كان أخد علقة سخنة.

محاكمة (راميريز) بدأت في 1988 يعني بعد 3 سنوات من القبض عليه، وفي أول ظهور ليه رفع أيده للناس كلها عشان يوريهم وشم النجمة الشيطانية وصرخ بأعلى صوته "المجد للشيطان."

محاكمته جذبت وسائل الأعلام وشاهدها الألاف من الناس، وظهر فيها (راميريز) غير مبالي أو نادم على أي من أفعاله الوحشية، وكان مستمتع بتسليط الأضواء عليه كأنه نجم سينمائي. ومظهره وهيئته أثاروا الرعب في كل الحضور حتى وهو مكبل اليدين والقدمين.

أغرب ما في الأمر، هو إن (راميريز) كان ليه الكثير من المعجبات اللي كانوا بيحضروا محاكمته وبيحاولوا إغراؤه بكل الطرق، وكانت الناس كلها مستغربة ازاي سفاح، سادي، ماقت للنساء يكون ليه عدد هائل من المعجبات!

محاكمته انتهت في 1989، ووجد مذنبًا ب 13 جريمة قتل، وعدد كبير من محاولات الشروع في القتل، والاقتحام، واختطاف الأطفال، والاغتصاب، وحُكم عليه بالإعدام في غرفة الغاز، وكان تعليقه على قرار الحكم عليه بالإعدام "أشوفكم في ديزني لاند!"

الغريب إن (راميريز) لم يُعدم أبدًا، وإنما مات على أسره احدى المستشفيات بكاليفورنيا سنة 2013، متأثرًا بإصابته بسرطان الغدد الليمفاوية، وطول حياته لم يبد أي ندم على أفعاله، بل كان بيفتخر بعشقه لرؤية الدماء، وتلذذه بالقتل وتعذيب ضحاياه.

وفي النهاية، يا ترى (راميريز) كان مجرد وحش سادي متجرد من كل معاني الإنسانية، ولا كانت شخصيته العدوانية هي نتيجة للظروف اللي اتعرضلها في طفولته وشبابه؟

أيًا كانت الإجابة، فـ (ريتشارد راميريز) هيفضل واحد من أكتر القتلة المتسلسلين دموية ووحشية في التاريخ، وبالتأكيد استحق لقب (سفير الجحيم) عن جدارة...

"عمركم ما هتفهموني، لأنكم أحقر من كدة. أنا أكبر من كل تجاربكم، أنا أكبر من كل تصنيفات الخير والشر. ومتفتكروش إنكم تخلصتم مني. المتعقب الليلي هيطاردكم للأبد، ومش هيظهر أي رحمة..." —ريتشارد راميريز

" —ريتشارد راميريز


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسطورة النداهة

رعب فندق سيسيل - الجزء الثاني